فصل في السمعيات
السمعيات كل ما ثبت بالسمع أي بطريق الشرع ولم يكن للعقل فيها مدخل، وكل ما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أخبار فهي بحق يجب تصديقه سواء شاهدناه بحواسنا، أو غاب عنا، وسواء أدركناه بعقولنا أم لم ندركه لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [سورة البقرة، الآية: 119.]. وقد ذكر المؤلف من ذلك أمورًا:
الأمر الأول: الإسراء والمعراج.
الإسراء لغة: السير بالشخص ليلًا. وقيل بمعنى سرى.
وشرعًا: سير جبريل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى بيت المقدس؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}[ سورة الإسراء، الآية: 1.].
والمعراج لغة: الآلة التي يعرج بها وهي المصعد.
وشرعًا: السلم الذي عرج به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . من الأرض إلى السماء لقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[ سورة النجم، الآيتان: 1 - 2.]. إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[ سورة النجم، الآية: 18.]. وكانا في ليلة واحدة عند الجمهور، وللعلماء خلاف متى كانت؟ فيروى بسند منقطع عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنها ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ولم يعينا السنة رواه ابن أبي شيبة.
ويروى عن الزهري وعروة أنها قبل الهجرة بسنة. رواه البيهقي، فتكون في ربيع الأول، ولم يعينا الليلة، وقاله ابن سعد وغيره وجزم به النووي. ويروى عن السدي أنها قبل الهجرة بستة عشر شهرًا. رواه الحاكم. فتكون في ذي القعدة.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل: بخمس. وقيل: بست.
وكان يقظة لا منامًا، لأن قريشًا أكبرته وأنكرته، ولو كان منامًا لم تنكره لأنها لا تنكر المنامات.
وقصته: أن جبريل أمره الله أن يسري بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس على البراق، ثم يعرج به إلى السماوات العلى سماء، سماء، حتى بلغ مكانًا سمع فيه صريف الأقلام، وفرض الله عليه الصلوات الخمس، وأطلع على الجنة والنار، واتصل بالأنبياء الكرام، وصلى بهم إمامًا، ثم رجع إلى مكة فحدث الناس بما رأى فكذبه الكافرون، وصدق به المؤمنون وتردد فيه آخرون.
الأمر الثاني: مجيء ملك الموت إلى موسى:
جاء ملك الموت بصورة إنسان إلى نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليقبض روحه، فلطمه موسى ففقأ عينه، فرجع الملك إلى الله وقال: (أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت) فرد الله عليه عينه وقال: (ارجع إليه، وقل له يضع يد على متن ثور فله بما غطى يده بكل شعرة سنة) فقال موسى: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). وهذا الحديث ثابت في الصحيحين[رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء (3407)، ومسلم، كتاب الفضائل (2372).] وإنما أثبته المؤلف في العقيدة لأن بعض المبتدعة أنكره معللًا ذلك بأنه يمتنع أن موسى يلطم الملك. ونرد عليهم: بأن الملك أتى موسى بصورة إنسان لا يعرف موسى من هو؟ يطلب منه نفسه، فمقتضى الطبيعة البشرية أن يدافع المطلوب عن نفسه، ولو علم موسى أنه ملك لم يلطمه، ولذلك استسلم له في المرة الثانية حين جاء بما يدل أنه من عند الله، وهو إعطاؤه مهلة من السنين بقدر ما تحت يده من شعر ثورة.
الأمر الثالث: أشراط الساعة:
الأشراط جمع شرط وهو لغة العلامة. والساعة لغة الوقت أو الحاضر منه.. والمراد بها هنا: القيامة. فأشراط الساعة شرعًا العلامات الدالة على قرب يوم القيامة قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}[ سورة محمد، الآية: 18.]. وذكر المؤلف من أشراط الساعة ما يأتي:
1- (خروج الدجال) وهو لغة صيغة مبالغة من الدجل، وهو الكذب والتمويه.
وشرعًا: رجل مموه يخرج في آخر الزمان يدعي الربوبية. وخروجه ثابت بالسنة، والإجماع. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (قولوا اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) رواه مسلم ["صحيح مسلم"، كتاب المساجد (590).]. وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعوذ منه في الصلاة. متفق عليه[رواه البخاري، كتاب الأذان (832)، ومسلم، كتاب المساجد (589).].
وأجمع المسلمون على خروجه.
وقصته أنه يخرج من طريق بين الشام والعراق، فيدعو الناس إلى عبادته فأكثر من يتبعه اليهود والنساء والأعراب. ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصفهان، فيسير في الأرض كلها كالغيث استدبرته الريح، إلا مكة والمدينة فمنع منهما، ومدته أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وباقي أيامه كالعادة، وهو أعور العين مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرؤه المؤمن فقط، وله فتنة عظيمة منها أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، معه جنة ونار، فجنته نار، وناره جنة. حذر منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال: (من سمع به فلينأ عنه، ومن أدركه فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، أو بفواتح سورة الكهف) [روى أبو داود جزءًا منه في كتاب الملاحم (4319)، وأحمد (4/441)، وروى مسلم جزءًا آخر في ضمن الحديث الطويل للنواس بن سمعان، كتاب الفتن (2937). وكذلك الترمذي، كتاب الفتن (2240).].
2- (نزول عيسى ابن مريم): نزول عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}[ سورة النساء، الآية: 159.]. أي: موت عيسى، هذا حين نزوله كما فسره أبو هريرة بذلك.
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (والله لينزلن عيسى ابن مريم حكمًا وعدلًا). الحديث متفق عليه [رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء (3448)،ومسلم، كتاب الإيمان (155).].
وقد أجمع المسلمون على نزوله، فينزل عند المنارة البيضاء في شرقي دمشق، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ويحج ويعتمر، كل هذا ثابت في صحيح مسلم وبعضه في الصحيحين كليهما [انظر: "صحيح البخاري" كتاب أحاديث الأنبياء (3448)، ومسلم، كتاب الإيمان (155)، وكتاب الحج (1252)، وكتب الفتن (2937).]. وروى الإمام أحمد وأبو داود أن عيسى يبقى بعد قتل الدجال أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون[سنن أبي داود، كتاب الملاحم (4324)، ومسند أحمد (2/406)، وصححه الألباني.]. وذكر البخاري في تاريخه أنه يدفن مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ذكره الترمذي في كتاب المناقب (3617)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/263)، وقال: هذا لا يصح عندي.] ، والله أعلم.
3- (يأجوج ومأجوج) اسمان أعجميان، أو عربيان مشتقان من المأج وهو الاضطراب، أو من أجيج النار وتلهبها.
وهما أمتان من بني آدم موجودتان بدليل الكتاب، والسنة.
قال الله تعالى قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[ سورة الكهف، الآيتان: 93، 94.]. الآيات.
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (يقول الله يوم القيامة: يا آدم، قم فابعث بعث النار من ذريتك)، إلى أن قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أبشروا فإن منكم واحدًا ومن يأجوج ومأجوج ألفًا) أخرجاه في الصحيحين["صحيح البخاري"، كتاب الرقاق (6530)، و "مسلم"، كتاب الإيمان (222).].
وخروجهم الذي يكون من أشراط الساعة لم يأت بعد، ولكن بوادره وجدت في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها) [رواه البخاري، كتاب الفتن (7135)، ومسلم، كتاب الفتن (2880).].
وقد ثبت خروجهم في الكتاب والسنة.
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَق} [سورة الأنبياء، الآيتان: 96، 97.]. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات). فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوفات خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. رواه مسلم ["صحيح مسلم"، كتاب الفتن (2901).]، وقصتهم في حديث النواس بن سمعان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في عيسى ابن مريم بعد قتله الدجال: (فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم ويقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل ببيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دمًا، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل عليهم طيرًا كأعناق البخت فتحمهم فتطرحهم حيث شاء الله). رواه مسلم ["صحيح مسلم"، كتاب الفتن (2937).].
4- (خروج الدابة). الدابة لغة: كل ما دب على الأرض. والمراد بها هنا: الدابة التي يخرجها الله قرب قيام الساعة.. وخروجها ثابت بالقرآن والسنة.
قال الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ}[ سورة النمل، الآية: 82.].
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات) وذكر منها الدابة. رواه مسلم [تقدم تخريجه.].
وليس في القرآن والسنة الصحيحة ما يدل على مكان خروج هذه الدابة وصفتها، وإنما وردت في ذلك أحاديث في صحتها نظر. وظاهر القرآن أنها دابة تنذر الناس بقرب العذاب والهلاك. والله أعلم.
5- (طلوع الشمس من مغربها) طلوع الشمس من مغربها ثابت بالكتاب والسنة.
قال الله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [سورة الأنعام، الآية: 158.]. والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها.
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا) متفق عليه[رواه البخاري، كتاب التفسير (4636)، ومسلم، كتاب الإيمان (157).].